فصل: ذِكْرُ الآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نواسخ القرآن



.ذِكْرُ الآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}.

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ لا على قولين:
أحدهما: أَنَّهَا كَانَتْ نَدْبًا لا وَاجِبَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ قَالُوا: الْمَعْرُوفُ لا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ وَبِقَوْلِهِ: على المتقين وَالْوَاجِبُ لا يُخْتَصُّ بِهِ الْمُتَّقُونَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، واستدلوا بقوله: كتب وهو بمعنى فرض كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَلَى نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، مَنْسُوخَةٌ.
وَأَجَابَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ أَهْلَ الْقَوْلِ الأَوَّلِ، فَقَالُوا: ذِكْرُ الْمَعْرُوفِ لا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، لِأَنَّ المعروف بمعنى العدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير كقوله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَلا خِلافَ فِي وُجُوبِ هَذَا الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، فَذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَصِيَّةِ لا يَمْنَعُ وُجُوبَهَا بَلْ يُؤَكِّدُهُ، وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الأَمْرِ بِالْمُتَّقِينَ دَلِيلٌ عَلَى تَوْكِيدِهِ لِأَنَّهَا إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُتَقِّينَ كَانَ وُجُوبُهَا عَلَى غَيْرِهِمْ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّقْوَى لازِمَةٌ لجميع الخلق.

.فَصْلٌ:

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ، بِإِيجَابِ الْوَصِيَّةِ وَنَسْخِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فِي الْمَنْسُوخِ مِنَ الْآيَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أقوال:
أحدها: أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ إِيجَابِ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخٌ، قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أبنا أبو الفضل ابن خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أخبرنا بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ ابْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}. قَالَ: نَسَخَتِ الْفَرِيضَةُ الَّتِي لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين الوصية.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَاذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني أبي قال بنا حجاج قال: بنا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عن ابن عبابس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} نَسَخَتْهَا {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ رِزْقٍ، قَالَ: أَبْنَا أحمد ابن سلمان، قال: بنا أبو داود، قال: بنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَتْهَا آية الميراث.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أبنا ابن حموية، قال: بنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أَبْنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَخْطُبُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَقَالَ: هَذِهِ نُسِخَتْ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنِ ابْنِ حَمَّادٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ جَهْضَمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدم عن محمد بن الفضيل، عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} قال: نسختها آية الفرائض.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ وَأَخْبَرَنِي شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ، فَهِيَ منسوخة، وكذلك قال: سعيدبن جُبَيْرٍ: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} قَالَ: نُسِخَتْ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نُسِخَ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو ظَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدَمُ عَنِ الْوَرْقَاءِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} قَالَ: كَانَ الْمِيرَاثُ لِلْوَلَدِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ الوالدين.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الفضل البقال قَالَ: أَبْنَا بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الْكَاذِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: بنا أسود بن عامر، قال: بنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ، وَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِلأَقْرَبِينَ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عن زمعة عن ابن طاؤس عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَجُعِلَتْ لِلأَقْرَبِين.
قَالَ أبوداود: وحدثنا حماد بن سلمة عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ الْعَلاءَ بْنَ زِيَادٍ وَمُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ عَنِ الْوَصِيَّةِ، فقالا: هي للقرابة.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِي نُسِخَ مِنَ الْآيَةِ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ يَرِثُ وَلَمْ يُنْسَخِ الأَقْرَبُونَ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ. رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أبنا علي بن الفضل، قالت: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَمَرَ أَنْ يُوصِيَ لِوَالِدَيْهِ، وَأَقْرَبِيهِ ثُمَّ نَسَخَ الْوَالِدَيْنِ وَأَلْحَقَ لِكُلِّ ذِي مِيرَاثٍ نَصِيبَهُ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ لَهُمْ مِنْهُ وَصِيَّةٌ فَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ لا يَرِثُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ غَيْرِ قَرِيبٍ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الفضل البقال، قال: بنا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أبنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَبْنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ فَنُسِخَ ذَلِكَ، وَأَثْبَتَتَ لهما نصيبهما فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِلأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ، وَنُسِخَ مِنَ الأَقْرَبِينَ كُلُّ وَارِثٍ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُوصِيَ لِوَالِدَيْهِ وَأَقْرِبَائِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَأَلْحَقَ لَهُمْ نَصِيبًا مَعْلُومًا، وَأَلْحَقَ لِكُلِّ ذِي ميراث نصيبه منه وليست لَهُمْ وَصِيَّةٌ، فَصَارَتِ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ لا يَرِثُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيد.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ حَمُّويَةَ، قَالَ: أبنا إبراهيم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يحيى بن آدم، قال: بنا إسماعيل بن عياش، قال: بنا شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلا وَصِيَّةَ لوارث».

.ذِكْرُ الآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.

أَمَّا قَوْلُهُ كُتِبَ، فَمَعْنَاهُ: فُرِضَ.
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَفِي كَافِ التَّشْبِيهِ فِي قوله: كما ثلاثة أقوال:
أحدها: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حُكْمِ الصَّوْمِ وَصِفَتِهِ لا إِلَى عَدَدَهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَبْدِ الْخَالِقِ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى السُّكَّرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ، وَقَالَ: أَبْنَا أَبُو عِلاثَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بن خالد، قال: بنا أبي قال: بنا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَأَخْبَرَنَا إسماعيل بن أحمد، وقال: بنا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ قَالَ: بنا إسحاق الكاذي قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حدثني أبي قال: بنا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ يَذْكُرْ عِكْرِمَةَ.
قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ: أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكَانَ كِتَابُهُ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَنْكِحُ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَتْمَةَ، أَوْ يَرْقُدَ وَإِذَا صَلَّى الْعَتْمَةَ أَوْ رَقَدَ مُنِعَ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِهَا، فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر النجاد، قال: بنا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَبْنَا نصر بن علي، قال: بنا أبو أحمد، قال: بنا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا صَامَ فَنَامَ لَمْ يَأْكُلْ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْقَابِلَةِ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ، أَتَى امْرَأَتَهُ، وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ: عِنْدَكِ شَيْءٌ قَالَتْ: لَعَلِّي أَذْهَبُ فَأَطْلُبُ لَكَ، فَذَهَبَتْ وَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: خَيْبَةٌ لَكَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله {مِنَ الْفَجْرِ}.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُتِبَ عَلَيْهِمْ إِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطْعَمَ إِلَى الْقَابِلَةِ، وَالنِّسَاءُ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ لَيْلَةَ الصِّيَامِ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ ثَابِتٌ وَقَدْ أَرْخَصَ لَكُمْ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ أَكَلَ بَعْدَمَا نَامَ، وأن عمربن الْخَطَّابِ جَامَعَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ أَنْ نَامَتْ، فَنَزَلَ فِيهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى عَدَدِ الصَّوْمِ لا إِلَى صِفَتِهِ، وَلِأَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ ثلاثة أقواله:
أَمَّا الأَوَّلُ: فَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بن حبيب، قالت: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ الْعَامِرِيُّ قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ حَمُّويَةَ، قَالَ: أبنا إبراهيم ابن خريم قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: بنا هاشم بن القاسم، قال بنا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كُتِبَ عَلَى النَّصَارَى الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ، فَكَانَ أَوَّلُ أَمْرِ النَّصَارَى أَنْ قَدِمُوا يوماً قالوا: حتى لا نخطىء.
قَالَ: ثُمَّ آخِرُ أَمْرِهِمْ صَارَ إِلَى أَنْ قَالُوا: نُقَدِّمُهُ عَشْرًا ونؤخر عشراً حتى لا نخطىء. فَضَلُّوا، وَقَالَ دَغْفَلُ بْنُ حَنْظَلَةَ كَانَ عَلَى النَّصَارَى صَوْمُ رَمَضَانَ فَمَرِضَ مَلِكُهُمْ فَقَالُوا إِنْ شَفَاهُ الله تعالى لنزيدن عَشَرَةً، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ مَلِكٌ آخَرُ فَأَكَلَ اللَّحْمَ فَوَجِعَ فُوهُ فَقَالَ: إِنْ شَفَاهُ لَيَزِيدَنَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلِكٌ بَعْدَهُ مَلِكٌ، فَقَالَ: مَا نَدَعُ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ الأَيَّامِ أَنْ نُتِمَّهَا، وَنَجْعَلَ صَوْمَنَا فِي الرَّبِيعِ، فَفَعَلَ فَصَارَتْ خَمْسِينَ يَوْمًا.
وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: اشْتَدَّ عَلَى النَّصَارَى صِيَامُ رَمَضَانَ، وَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اجْتَمَعُوا فَجَعَلُوا صِيَامًا فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَقَالُوا نَزِيدُ عِشْرِينَ يَوْمًا نُكَفِّرُ بِهَا مَا صَنَعْنَا فَجَعَلُوا صِيَامَهُمْ خَمْسِينَ يَوْمًا فَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا. أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ ابن الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عَنْهُمَا {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فَكَانَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ مَا أُنْزِلَ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ وَقَالَ قتادة: كتب الله عز وجل عَلَى النَّاسِ قَبْلَ نُزُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَدْ رَوَى النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: ثَلاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ وَقَدْ زَعَمَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} وَفِي هَذَا بُعْدٌ كَثِيرٌ، لِأَنَّ قوله {شَهْرُ رَمَضَانَ} جَاءَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِلصِّيَامِ وَالْبَيَانِ لَهُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ التَّشْبِيهَ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ الصَّوْمِ لا إِلَى صِفَتِهِ وَلا إِلَى عَدَدِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} لا يَدُلُّ عَلَى عَدَدٍ وَلا صِفَةٍ، وَلا وَقْتٍ، وَإِنَّمَا يُشِيرُ إِلَى نَفْسِ الصِّيَامِ كَيْفَ وَقَدْ عَقَّبَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فَتِلْكَ يَقَعُ عَلَى يَسِيرِ الأَيَّامِ وَكَثِيرِهَا.
فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: فِي نَسَقِ التِّلاوَةِ شَهْرُ رَمَضَانَ، بَيَّنَ عَدَدِ الأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ وَوَقْتَهَا، وَأَمَرَ بِصَوْمِهَا فَكَانَ التَّشْبِيهُ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الصَّوْمِ. وَالْمَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصُومُوا كَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا صِفَةُ الصَّوْمِ وَعَدَدُهُ فَمَعْلُومٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لا مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ أشار إليه السُّدِّيُّ وَالزَّجَّاجُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَمَا رَأَيْتُ مُفَسِّرًا يَمِيلُ إِلَى التحقيق إلا وقد أومأ إِلَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَإِنَّهُ شَرْحُ حَالِ صَوْمِ المتقدمين، وكيف كتب عليهم لا أنه تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ لا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً أَصْلا.

.ذِكْرُ الآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ على قولين:
أحدهما: أنه يقتضي التخيير بين الصوم وبين الإفطار مَعَ الْإِطْعَامِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلامِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وَلا يَصُومُونَهُ فِدْيَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلامُ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أبنا بن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قال: بنا عبد الرازق قال: بنا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قالت: نَسَخَتْهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وَكَانَتِ الْإِطَاقَةُ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يُصْبِحُ صَائِمًا، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ لِذَلِكَ مِسْكِينًا فَنَسَخَتْهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن إدريس، قال: بنا الأَعْمَشُ، عَنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
قَالَ أحمد: وحدثنا وكيع، قال: بنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قَالَ: نَسَخَتْهَا الَّتِي بَعْدَهَا وَالَّتِي تَلِيهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ عَبْدِ الصمد، قال. بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: بنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قالت أَبْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كَانُوا إِذَا أراد الرَّجُلَ أَنْ يُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ نِصْفَ صَاعٍ حَتَّى نَسَخَتْهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فَلَمْ يَكُنْ إِلا لَهُمَا.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَحَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبراهيم، قال: بنا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. أَفْطَرَ الأَغْنِيَاءُ وَأَطْعَمُوا وَحَصَلَ الصَّوْمُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فصام الناس جميعاً.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَبْنَا أبوعمرو بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بن مخلد، قال: بنا القاسم بن عياد، قال: بنا بشر بن عمر، قال: بنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ ابن عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ.
وَرَوَى عَطِيَّةُ، وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ فِي الصَّوْمِ الأَوَّلِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ شَاءَ مِنْ مُسَافِرٍ أَوْ مُقِيمٍ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكِينًا وَيُفْطِرَ، كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لَهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَبْنَا أبو علي ابن شاذان، قال: بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني قال: بنا قُتَيْبَةُ. وَأَبْنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ القطان، قال: بنا أبو محمد بن درستويه قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال بنا أبو صالح، قال: بنا بَكْرُ بْنُ مُضَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، فَعَلَ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا.
وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَكَانُوا قَوْمًا لَمْ يَتَعَوَّدُوا الصِّيَامَ وَكَانَ الصَّوْمُ عَلَيْهِمْ شَدِيدًا وَكَانَ مَنْ لَمْ يَصُمْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَافْتَدَى لِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَنُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ، عَنْ جَمَاعَةٍ منهم معاذ بن جبل وابن مسعود، وابن عمر، والحسن، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ رضي الله عنهم.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَأَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ: وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ أَوْ لا يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ، وَأُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي يَعْجَزُ عَنِ الصَّوْمِ، وَالْحَامِلِ الَّتِي تَتَأَذَّى بِالصَّوْمِ وَالْمُرْضِعِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ، وَأَبُو ظَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالا: أَبْنَا ابْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، قَالَ: أَبْنَا محمّد ابن سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قال: بنا عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} وَهُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ كَانَ يُطِيقُ صِيَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ شَابٌّ فَكَبُرَ وَهُوَ عَلَيْهِ لا يَسْتَطِيعُ صَوْمَهُ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ أَقِطٌ.
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أَبْنَا إِسْحَاقُ الكاذي، قال بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا روح قال: بنا زكريا بن إسحق، قال: بنا عمرو ابن دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قَالَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَهُوَ الشَّيْخُ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يوم مسكيناً.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَبْنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَبْنَا بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قَالَ: أَبْنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أبنا عبد الرازق عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمْ يُنْسَخْ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: وَأَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قال: بنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قَالَ: هُمُ الَّذِي يُكَلَّفُونَهُ وَلا يُطِيقُونَهُ هُوَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ وَأَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قَالَ: هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لا يُطِيقُ الصِّيَامَ يُطْعِمُ عَنْهُ لكل يوم مسكين.
وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو طَالِبِ بْنُ غَيْلانَ، قال: أبنا أبو بكر الشافعي، قال: أبنا إسحق بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: بنا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ النَّهْدِيُّ، قَالَ: بنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقْرَؤُهَا {وَعَلَى الذين يطوقونه فدية}. قَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لا يُطِيقُ الصِّيَامَ يُطْعِمُ عَنْهُ وَبِالْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب {وعلى الذين يطوقونه فدية} قَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَصُومُ فَيَعْجَزُ وَالْحَامِلُ إِنِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ يُطْعِمَانِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، قُلْتُ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لا يُلْتَفَتُ إليها لوجوه:
أحدها: أَنَّهَا شَاذَّةٌ خَارِجَةٌ عَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمَشَاهِيرُ فَلا يُعَارَضُ مَا تثبت الحجة بنقله.
والثائي: أَنَّهَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْآيَةِ، لِأَنَّ الآية تقتضي إثبات الْإِطَاقَةَ لِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وهذا القراءة تقتضي نفيها.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ وَيَعْجَزُونَ عَنْهُ يَنْقَسِمُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أحدهما: مَنْ يَعْجَزُ لِمَرَضٍ أَوْ لِسَفَرٍ، أَوْ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ وَيَلْزَمُهُ القضاء من غيركفارة.
وَالثَّانِي: مَنْ يَعْجَزُ لِكِبَرِ السِّنِّ فهذا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَقَدْ يَجُوزُ الْإِفْطَارُ لِلْعُذْرِ لا للعجز ثم يلزمه القضاء والكفارة، كَمَا نَقُولُ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى الْوَلَدِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِمُسْتَفَادٍ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ. فَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ يكون النسخ أولى بالآية من الإحكام، يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي تَمَامِ الْآيَةِ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعُودَ هَذَا الْكَلامُ إِلَى الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ وَلا إِلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَلا إِلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْفِطْرَ فِي حَقِّ هَؤُلاءِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ قَدْ نُهُوا أَنْ يُعَرِّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلتَّلَفِ، وَإِنَّمَا عَادَ الْكَلامُ إِلَى الأَصِحَّاءِ الْمُقِيمِينَ خُيِّرُوا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ فَانْكَشَفَ بِمَا أوضحنا أن الآية منسوخة.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ لا تَكُونُ الْآيَةُ عَلَى القراءة الثانية، وهي: {يُطِيقُونَهُ} إِلا مَنْسُوخَةً.

.ذِكْرُ الآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحْكَمَةٌ على قولين:
أحدهما: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهَا على قولين:
أحدهما: أَنَّهُ أَوَّلُهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقِتَالَ إِنَّمَا يُبَاحُ فِي حَقِّ مَنْ قَاتَلَ مِنَ الْكُفَّارِ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَإِنَّهُ لا يُقَاتَلُ وَلا يُقْتَلُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاءِ في ناسخ ذلك على أربعة أقوال:
أحدهما: أَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}.
والثاني: أَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}.
وَالثَّالِثُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وَالرَّابِعُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالُوا إنما أَخَذُوهُ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ إِنَّمَا هُوَ حُجَّةُ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ وَقَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَآيَةِ السَّيْفِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَقْتَضِي إِطْلاقَ قَتْلِ الْكُفَّارِ، قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا.
فَأَمَّا الْآيَةُ الأُولَى الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا نَاسِخَةٌ فَإِنَّهَا تُشْبِهُ الْمَنْسُوخَةَ وَتُوَافِقُهَا فِي حُكْمِهَا، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ قِتَالَ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ؛ لأن قوله واقتلوهم عَطْفٌ عَلَى الْمَأْمُورِ بِقِتَالِهِمْ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ قِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْآيَةُ الَّتِي ادُّعِيَ نَسْخُهَا مُطْلَقَةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُقَاتِلُ.
وَأَمَّا الرَّابِعَةُ تَصْلُحُ نَاسِخَةً لَوْ وَجَدَتْ مَا تَنْسَخُهُ وَلَيْسَ ههنا إِلا دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ههنا عَلَى مَا بَيَّنَّا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلا تَعْتَدُوا} لِلْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى هَذَا الِاعْتِدَاءِ خمسة أقوال:
أحدها: لا تَعْتَدُوا بِقَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
الثَّانِي: بِقِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْكُمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ زَيْدٍ وَهَؤُلاءِ إِنْ عَنُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعِدَّ نَفْسَهُ للقتال كالنساء وَالْوِلْدَانِ، وَالرُّهْبَانِ فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ. وَإِنْ عَنُوا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الرِّجَالِ المستعدين للقتال توجه النسخ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاعْتِدَاءَ إِتْيَانُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْمُشْرِكِينَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْحَرَمِ قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
وَالْخَامِسُ: لا تَعْتَدُوا بقتال من وادعكم وَعَاقَدَكُمْ. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالظَّاهِرُ إحكام الآية كلها ويبعد ادعاء النسخ فيها.

.ذِكْرُ الآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}.

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحْكَمَةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهَا على ثلاثة أقواله:
أحدها: أَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فأمر بقتلهم فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ قَالَهُ قَتَادَةُ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَقَّالُ، قَالَ: أَبْنَا ابْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أَبْنَا إسحق الكاذي، قال: بنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثني أبي، قال: بنا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}، فأمر أن لا يبدؤوا بِقِتَالٍ، ثُمَّ قَالَ: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ثُمَّ نُسِخَتِ الْآيَتَانِ فِي بَرَاءَةٍ فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ شَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. قال: كانوا لا يقاتلون فيه حَتَّى يُقَاتِلُوهُمْ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَأَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} قاله الربيع ابن أَنَسٍ وَابْنُ زَيْدٍ.
وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتَلَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْمُحَقِّقِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: فِي مَكَّةَ «أَنَّهَا لا تَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ الْقِتَالَ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلا يَحِلُّ إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ».
وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُ مَنْ لا عِلْمَ لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةُ نُسِخَتْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَأَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خطل وهو متعلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ».
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وجهين:
أحدهما: أَنَّ الْقُرْآنَ لا يَنْسَخُ إِلا الْقُرْآنَ، وَلَوْ أَجَزْنَا نَسْخَهُ بِالسَّنَّةِ لاحْتَجْنَا إِلَى أَنْ نَعْتَبِرَ فِي نَقْلِ ذَلِكَ النَّاسِخِ مَا اعْتَبَرْنَا فِي نَقْلِ الْمَنْسُوخِ، وَطَرِيقُ الرِّوَايَةِ لا يَثْبُتُ ثُبُوتَ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ بِالْإِبَاحَةِ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، وَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ النَّسْخَ مَا رَفَعَ الْحُكْمَ عَلَى الدَّوَامِ كَمَا كَانَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَلَى الدَّوَامِ.
فَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى التَّخْصِيصِ لا عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ إِنَّمَا يَكُونُ النَّسْخُ مَعَ تَضَادِّ اجْتِمَاعِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا ادَّعُوهُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا وَصَحَّ الْعَمَلُ بِهِمَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فِي غَيْرِ الْحَرَمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أَيْ: فِي غَيْرِ الْحَرَمِ بِدَلِيَلِ قوله عقب ذَلِكَ {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}.ولوجاز قَتْلُهُمْ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْإِخْرَاجِ، فَقَدْ بَانَ مِمَّا أَوْضَحْنَا إِحْكَامُ الْآيَةِ وَانْتَفَى النسخ عنها.

.ذِكْرُ الآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الانتهاء على قولين:
أحدهما: أَنَّهُ الِانْتِهَاءُ عَنِ الْكُفْرِ.
وَالثَّانِي: عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لا عَنِ الْكُفْرِ فَعَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَالثَّانِي يَخْتَلِفُ فِي الْمَعْنَى فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إِذْ لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِقِتَالِهِمْ فِي الْحَرَمِ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلا يَكُونُ نَسْخٌ أَيْضًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَعْنَى اعْفُوا عَنْهُمْ وَارْحَمُوهُمْ، فَيَكُونُ لَفْظُ الْآيَةِ لَفْظُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ: الأَمْرُ بِالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالْعَفْوُ عَنْهُمْ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بآية السيف.

.ذِكْرُ الآيَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}.

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ أَمْ لا عَلَى قولين:
أحدهما: أَنَّ فِيهَا مَنْسُوخًا. وَاخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: أَنَّهُ قَوْلُهُ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أَدَاءِ عُمْرَتِهِ فَقَضَاهَا فِي السَّنَّةِ الثَّانِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَاقْتَضَى هَذَا، أَنَّ مَنْ فَاتَهُ أَدَاءُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ الَّذِي عَقَدَهُ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَجُعِلَ لَهُ قَضَاؤُهُ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، أَمَّا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الشَّهْرِ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: وَمِمَّنْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ عَطَاءٌ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لا يُعْرَفُ عَنْ عَطَاءٍ وَلا يَشْتَرِطُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ عَلَى مَنْ مُنِعَ مِنْ عُمْرَتِهِ أَوْ أَفْسَدَهَا أَنْ يَقْضِيَهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الشَّهْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلُهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْكَلامِ وَوَجْهُ نَسْخِهِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ لَيْسَ لَهُمْ سُلْطَانٌ يَقْهَرُونَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَاطُونَهُمْ بِالشَّتْمِ وَالأَذَى فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْهِمْ مِثْلَ مَا أَتَوْا إِلَيْهِمْ أَوْ يَعْفُوا وَيَصْبِرُوا فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَعَزَّ اللَّهُ سُلْطَانَهُ نَسَخَ مَا كَانَ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ، رَوَاهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ إِذَا اعْتُدِيَ عَلَى الْإِنْسَانِ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَافَعَةٍ إِلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى السُّلْطَانِ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. قَالَ شَيْخُنَا وَمِمَّنْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قُلْتُ: وَهَذَا لا يَثْبُتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا يُعْرَفُ لَهُ صِحَّةٌ، فَإِنَّ النَّاسَ مَا زَالُوا يَرْجَعُونَ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ وَسَلاطِينِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلامِ إلا أَنَّهُ لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ مِنْ خَصِيمِهِ مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ أَجْزَأَ ذَلِكَ، وَهَلْ يجوز له ذلك؟ فيه رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ فِيهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْكُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلا يَثْبُتُ ولو ثَبَتَ كَانَ مَرْدُودًا، بِأَنَّ دَفْعَ الِاعْتِدَاءِ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ الأَزْمِنَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا حُكْمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الآية أنها محكمة غير مَنْسُوخَةٍ. فَأَمَّا أَوَّلُهَا فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا مَنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُولِ مكة في شهر حرام اقتصر لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِدْخَالِهِ مَكَّةَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَبْنَا أحمد بن الحسن بْنُ خَيْرُونَ وَأَبُو ظَاهِرٍ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ: أَبْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَبْنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي، قَالَ: أَبْنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ. حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حَبَسُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَنِ الْبَيْتِ فَفَخَرُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَرَجَعَّهُ اللَّهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَأَدْخَلَهُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَاقْتَصَّ لَهُ مِنْهُمْ.
فَأَمَّا قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ عَاهَدُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ وَلأَصْحَابِهِ الْعَامَ الْمُقْبِلَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا جاء العام الذي كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ فَخَافُوا، أَنْ لا يُوَفِّ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَا شَرَطُوا وَأَنْ يَقْتُلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْقِتَالَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَبَلَدٍ حَرَامٍ فَنَزَلَتْ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أَيْ: مَنْ قَاتَلَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَرَمِ فَقَاتِلُوهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ يُسَمَّى الْجَزَاءُ اعْتِدَاءً؟
فَالْجَوَابُ: إِنَّ صُورَةَ الْفِعْلَيْنِ وَاحِدَةٌ وإن اختلف حكماهما.
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ظَلَمَنِي فلا ن فَظَلَمْتُهُ: أَيْ: جَازَيْتُهُ بِظُلْمِهِ، وَجَهِلَ عَلَيَّ فَجَهِلْتُ عَلَيْهِ، أَيْ جَازَيْتُهُ بجهله.
قلت: فقد بان بماذكرنا أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَلا وَجْهَ لِدُخُولِهَا فِي الْمَنْسُوخِ أَصْلا.